فصل: النوع العشرون: في المناجاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


النوع الثامن عشر‏:‏ العين والوضوء إليها

وفي الموطأ‏:‏ اغتسل سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه وعامر بن عبد الله ينظر، وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد فقال له عامر بن ربيعة‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سهلا وعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم علام يقتل أحدكم أخاه ألا

بركت إن العين حق، فتوضأ له عامر فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخله إزاره في قدح، ثم صب عليه فبرئ سهل، قال الباجي‏:‏ الحرار موضع بالمدينة، وقيل‏:‏ ماؤها، ومعنى العين أن الله تعالى أجرى عادته أنه إذا تعجب إنسان خاص ونطق ولم يبرك أن يصاب المتعجب منه، وذلك معنى في نفس العائن لا يوجد في نفس غيره، ومتى برك قال‏:‏ اللهم بارك فيه أو بارك الله فيه لم تضرب عينه، وأجرى الله تعالى أن ذلك الوضوء شفاؤها‏.‏

وقال ابن نافع‏:‏ بالوضوء كما تقدم؛ وقال ابن دينار‏:‏ يديه ومرفقيه ولا يعسل ما بين اليد والمرفق؛ وقال الزهري الذي قاله علماؤنا يؤتى العائن بقدح فيه ماء فيمسك مرتفعا من الأرض فيدخل كفه فيمضمض ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح صبة واحدة، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على كفه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على مرفقه الأيمن ثم بيده اليمنى على مرفقه الأيسر، ثم بيده اليسرى على قدمه اليمنى، ثم بيده اليمنى على قدمه اليسرى، ثم بيده اليسرى على ركبته اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ركبته اليسرى، كل ذلك في قدح، ثم يدخل داخلة إزاره ولا يوضع القدح في الأرض ويصب على رأس المعين من خلفه صبة واحدة، وقيل‏:‏ يعتقل ويصب عليه، ثم يكفى القدح على ظهر الأرض وراءه، وداخلة إزاره هو الطرف المتداني الذي يفضي من مئزره إلى جلده؛ لأنه إنما يمر بالطرف الأيمن على الأيسر حتى يشده بذلك الطرف المتداني الذي يكون من داخل، وعن ابن نافع‏:‏ لا يغسل موضع الخرزة من داخل الإزار، وإنما يغسل الطرف المتداني، قال ابن أبي زيد‏:‏ الإزار الذي تحت الإزار مما يلي الجسد، قاله مالك، وقال ابن نافع‏:‏ الطرف الداخل المتدلي، قال ابن حبيب الذي يضعه المؤتزر أولا على حقوه، وفي الموطأ‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرقية للعين، وقال‏:‏ لو سبق شيء القدر لسبقته العين‏.‏

تنبيه‏:‏ خلق الله النفوس مختلفة الهيئات، فنفس مهيبة، ونفس مهينة، ونفس تؤثر بالعين، ونفس تؤثر بالقتل، ففي الهند من إذا جمع نفسه على إنسان ذهب

قلبه من صدره فمات، ويجربونهم في الرمانة يحطونها ويجمعون همتهم عليها فتفتح فلا يوجد فيها حب، وكذلك بعض النفوس خلق شفاف النفس إذا ارتاض حصلت له المكاشفة وإدراك المغيبات، كان مؤمنا أو كافرا، ولذلك لا يستدل بالمكاشفات على الديانات، ومنهم من خلق بحيث إذا نظر في أحكام النجوم بزعمه أو ضرب الرمل أو بالسير أو بالشعير أو غير ذلك مما يتعاطاه الناس أرباب الزجر لا يكاد يخطئ أصلا لخاصية في نفسه، لا لأن ذلك المعنى حق، وكذلك الرقى والطلسمات والسحريات تابع لخواص النفوس، فرب رقية تؤثر مع شخص دون غيره، ومن جرب وجد، ولا عجب في أن تكون النفوس مختلفة الخواص، بل الحيوان؛ لأنه أبدع في المخلوقات من النبات والجماد، وقد خص الله تعالى العقاقير النباتية والجمادية بأنواع السموميات والترياقات والمنافع الغريبة والخواص العجيبة، وجميع هذه الآثار في الجميع إنما هي صادرة عن قدرة الله تعالى ومشيئته عند هذه الأسباب العادبة، ولو شاء تعالى لم يكن شيء من ذلك، فسبحان من يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏

النوع التاسع عشر‏:‏ المهاجرة

وفي الموطأ‏:‏ قال عليه السلام‏:‏ لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا‏.‏ قال الباجي عن مالك‏:‏ إن سلم عليه ولم يكلمه انقطعت المهاجرة، لقوله عليه السلام‏:‏ وخيرهما الذي يبدأ بالسلام‏.‏ فلو لم يخرج من المهاجرة لما مدح، وعنه إن كان غير مؤذ له فكذلك، وإن كان مؤذيا له فلا يخرج بمجرد السلام؛ لأن الأذى أشد من المهاجرة، وعن مالك‏:‏ المهاجرة من الغل‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ إذا اعتزل كلامه ردت شهادته وإن كان غير مؤذ له، وفي

المقدمات‏:‏ يخرج بالسلام من الهجران إن كان متماديا على أذيته والسبب الذي هجره من أجله، فإن كان أقلع عن ذلك فلا يخرج من هجرانه ولا تجوز شهادته عليه إلا بالعود إلى ما كان عليه معه، قال هذا معنى قول مالك‏:‏ ويهجر أهل الأهواء والبدع والفسوق؛ لأن الحب والبغض فيه واجب، ولما في ذلك من الحث على الخير والتنفير من الشر والفسوق‏.‏

النوع العشرون‏:‏ في المناجاة

في الموطأ‏:‏ قال عليه السلام لايتناجى اثنان دون واحد، قال الباجي قال ابن دينار لا يتسارى ويتركا صاحبهما وحده قرين الشيطان يظن بهما أنهما يغتابانه، وروي أن هذا إنما هو في السفر، وروي أنه كان في بدء الإسلام، وأكثر الناس على عمومه؛ لأنه من مكارم الأخلاق‏.‏

وعن مالك‏:‏ لا يتناجى ثلاثة دون واحد للنهي عن ترك واحد، ولو كانوا عشرة أن يتركوا واحدا لما تقدم، قال صاحب المقدمات‏:‏ كلما كثرت الجماعة كان أشد وأقل أدبا في حقه، وإذا خشي المتناجيان أن صاحبهما يظن أنهما يتحدثان في غدره حرم عليهما كان في سفر أو حضر، وإن أمنا كره في السفر والحضر؛ لأنه يعم المنفرد من حيث الجملة‏.‏

النوع الحادي والعشرون‏:‏ ما يجري من الغرور والتدليس

وفي المقدمات‏:‏ لا يجوز للمرأة وصل شعرها ولا وشم وجهها ولا يديها ولا وشر أسنانها لقوله عليه السلام في الصحيح لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشرة والمستوشرة والواشمة والمستوشمة والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله‏.‏ فالوشم‏:‏ التغزير بالإبرة ثم يحشى موضعه بالكحل فيخضر، والوشر‏:‏ نحت الأسنان حتى تتفلج وتتحدد أطرافها، والمتنمصات، قال المازري في المعلم‏:‏ النامصة‏:‏ التي تنتف الشعر من الوجه والمتنمصة التي يفعل بها ذلك‏.‏

وفي المقدمات‏:‏ ويجوز لها خضب يديها ورجليها بالحناء، وأجاز مالك

تطريف أصابعها، ونهى عنه عمر بن الخطاب، قال وهو يخطب‏:‏ يا معشر النساء اختضبن وإياكن والنقش والتطريف، ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا وأشار إلى موضع السوار، وسبب المنع في وصل الشعر وما معه التدليس والغرور، قاله صاحب المقدمات‏.‏

تنبيه‏:‏ لم أر للفقهاء المالكية والشافعية وغيرهم في تعليل هذا الحديث إلا أنه تدليس على الأزواج ليكثر الصداق، ويشكل ذلك إذا كانوا عالمين به وبالوشم فإنه ليس فيه تدليس، وما في الحديث من تغيير خلق الله لم أفهم معناه، فإن التغيير للجمال غير منكر في الشرع كالختان وقص الظفر والشعر وصبغ الحناء وصبغ الشعر وغير ذلك‏.‏

سؤال

قال عليه السلام‏:‏ المؤمن لا يكون لعانا، وورد اللعن في هذا الحديث، وفي قوله عليه السلام‏:‏ لعن الله اليهود حرمت الشحوم الحديث، وفي قوله عليه السلام‏:‏ لعن الله المتشبهات بالرجال من النساء الحديث، وأجيب عنه بوجهين، أحدهما‏:‏ أن هذا إخبار بوقوع اللعن الذي هو البعد من الله تعالى على هذه الطوائف لا دعاء، وإنما حرم دعاء، الثاني أن لعان صيغة مبالغة، وإنما يصلح لمن كان له ذلك عادة، وكانت هذه اللفظات قليلة فلم تكن عادة فلم يندرج في النهي‏.‏

النوع الثاني والعشرون‏:‏ مخالطة الذكور للإناث ونحوه

في المقدمات لا يحل للرجل أن يخلو بامرأة ليست منه بمحرم، لقوله عليه السلام‏:‏ إن الشيطان ثالثهما، معناه يوسوس بينهما، وإذا كان معه غيره خشي أن يطلع عليه تحدثه بالمعصية، ويجوز النظر للمتجالة لقوله تعالى ‏(‏والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة‏)‏ ولا يجوز له أن ينظر للشابة إلا لعذر من شهادة أو علاج أو

إرادة زواجها، لقوله عليه السلام‏:‏ هل نظرت إليها فإنه أحرى أن يدوم بينكما‏.‏ وتقدم بسطه في النكاح‏.‏

ويجوز للعبد أن يرى من سيدته ما يراه ذو المحرم منها لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما ملكت أيمانكم‏"‏ إلا أن يكون له منظر فيكره أن يرى ما عدا وجهها، ولها أن تؤاكله إن كان وغدا دنيا يؤمن منه التلذذ بها، بخلاف الشاب الذي لا يؤمن، واختلف في غير أولي الإربة الذين في الآية، فقيل‏:‏ الأحمق المعتوه الذي لا يهتدي لشيء من أمر النساء، وقيل‏:‏ الحصور والعنين الذي لا ينتشر للنساء، وكذلك الخصي، والأول لمالك، ويؤيده قول النبي عليه السلام في المخنث الذي كان يلج على أزواجه‏:‏ لا يدخل هؤلاء عليكن، ولا يجوز للخصي الدخول على المرأة إلا أن يكون عبدها، واستخف إذا كان عبد زوجها للمشقة الداخلة عليها في استتارها منه، وعنه جواز دخوله عليها إذ لم يكن حرا، وكان عبد زوجها أو عبدها أو لغيرهما استحسانا‏.‏

ويفرق بين الصبيان في المضاجع، قيل‏:‏ لسبع سنين، وقيل‏:‏ لعشر إذا ضربوا على الصلاة، وهو ظاهر قوله عليه السلام‏:‏ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع، ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان متعريين في لحاف لنهيه عليه السلام عن معاكمة الرجل للرجل بغير شعار ومعاكمة المرأة المرأة بغير شعار، والمعاكمة هي ذلك لغة، والمتاع المعكوم أي المشدود بعضه لبعض، وعيكم المرأة ضجيعها‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ يجوز له رؤية فرج امرأته في الجماع، ومنع مالك رؤية خادم

الزوجة فخذ زوجها، ولا يدخل عليه المرحاض، وكذلك خادم ابنه وأبيه، ولا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أم زوجته، ولا ينبغي إن قدم من سفر أن تعانقه وإن كانت عجوزا، وليبعد من أخت امرأته ما استطاع، ويتقدم للصناع في قعود النساء إليهم، ولا تجلس الشابة عند الصانع إلا الخادم الدون ومن لا يتهم فيها‏.‏

قال مالك‏:‏ لا بأس أن تغتسل المرأة في الفضاء بغير مئزر قال ابن أبي زيد، قيل‏:‏ لمالك‏:‏ أيجامع امرأته ليس بينهما ستر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ إنهم يرون كراهيته، قال‏:‏ ألغ ما يتحدثون، قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها يغتسلان عريانين، فالجماع أولى‏.‏

قال مالك‏:‏ لا بأس أن يأتزر تحت سرته ويبدي سرته إن كان عظيم البطن، وأنكر ما يفعل جواري المدينة يخرجن قد كشفن ما فوق الإزار، قال وقد كلمت فيه السلطان فلم أجب لذلك، قيل له‏:‏ فغلام بعضه حر هل يرى شعر سيدته‏؟‏ قال‏:‏ لا أحبه، واحتجبت عائشة رضي الله عنها عن أعمى، فقيل‏:‏ لها إنه لا ينظر إليك، قالت‏:‏ لكن أنظر إليه، قال‏:‏ ولا يعجبني النظر إلى شعر نساء النصارى، قال اللخمي‏:‏ يرى المكاتب شعر سيدته، بخلاف المشرك وإن كان وغدا‏.‏

النوع الثالث والعشرون‏:‏ معاملة مكتسب الحرام كمتعاطي الربا والغلول وأثمان الغصوب والخمور ونحو ذلك

وفي الجواهر‏:‏ إما أن يكون الغالب على ماله الحرم أو الحلال، أو جميعه حرام إما بأن لا يكون له مال حلال أو ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال‏.‏

فإن كان الغالب الحلال أجاز ابن القاسم معاملته واستقراضه وقبض الدين منه وقبول هديته وهبته وأكل طعامه، وحرم جميع ذلك ابن وهب، وكذلك أصبغ على أصله من أن المال إذا خالطه حرام يبقى حراما كله يلزمه التصدق بجميعه، قال أبو الوليد‏:‏ والقياس قول ابن القاسم، وقول ابن وهب استحسان، وقول أصبغ تشدد، فإن قاعدة الشرع اعتبار الغالب‏.‏

وإن كان الغالب الحرام امتنعت معاملته وقبول هديته كراهة عند ابن القاسم وتحريما عند أصبغ، إلا أن يبتاع حلالا فلا بأس أن يبتاع منه ويقبل هديته إن علم أنه قد بقي في يديه ما يفي بما عليه من التباعات على القول بأن معاملته مكروهة، ويختلف على القول بالتحريم‏.‏

فإن كان الجميع حراما على ما تقدم تفسيره، ففي معاملته وهديته وأكل طعامه أربعة أقوال‏:‏

يحرم ذلك كله وإن كانت السلعة التي وهب والطعام الذي أطعم علم أنه اشتراه نظرا إلى الثمن، فإن علم أن ورثه أو وهب له فيجوز إلا أن يكون قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما ورث أو وهب له فيكون حكمه حكم ما اشتراه وكذلك ما صاده‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن معاملته تجوز في ذلك المال فيما ابتاعه من السلع وما وهب له أو ورثه وكان عليه من التبعات ما يستغرقه إذا عامله بالقيمة ولم يحابه نظرا لتجدد المالك، ولا تجوز هبته في شيء من ذلك ولا محاباته؛ لأنه مستغرق الذمة بما يتعين له هذا المال‏.‏

والقول الثالث‏:‏ لا تجوز مبايعته في ذلك المال، فإن اشترى به سلعة جاز أن تشترى وأن تقبل منه هبته، وكذلك ما ورثه أو وهب له وإن استغرقته التبعات التي عليه، قال ابن حبيب‏:‏ وكذلك هؤلاء العمال فيما اشتروه في الأسواق فأهدوه لرجل جاز له‏.‏

والقول الرابع‏:‏ يجوز مبايعته وقبول هبته وأكل طعامه في ذلك المال وفيما اشتراه أو وهب له أو ورثه وإن كان ما عليه من التبعات استغرقه، قال أبو الوليد‏:‏ فعلى هذا القول يجوز أن تورث عنه، واختلف على القول بمنع معاملته في ذلك المال وقبول هبته وأكل طعامه هل يسوغ للوارث الوراثة أو لا‏؟‏ على قولين‏:‏ يسوغ بالموارثة لا بالهبة قاله سحنون، والثاني‏:‏ لا يسوغ بالميراث كما لا يسوغ بالهبة ويلزم الوارث التخلي عن هذا المال والصدقة به كما كان يلزم الموروث‏.‏

مسألة

قال‏:‏ من اشترى سلعة حلالا بمال حرام والثمن عين، قال أصحابنا‏:‏ يجوز شراؤها منه، علم صاحبها بخبث الثمن أم لا؛ لأن النقدين لا يتعينان، وأجاز ابن عبدوس مع العلم بخبث الثمن دون الجهل‏.‏‏.‏‏.‏ وكره سحنون شراءها مع العلم والجهل، فأما شراؤها بعرض بعينه حرام فلا يجوز، فإن باع شيئا حراما بشيء حلال قال أحمد بن نصر الداودي‏:‏ المأخوذ في الحرام حرام، وحرم الحلال بيد لأخذه إن علم بذلك‏.‏

مسألة

قال ابن نصر الداودي وصايا السلاطين المعروفين بالظلم المستغرقي الذمة غير جائزة عنهم مردودة، ولا تورث أموالهم؛ لأن ما بين أيديهم للمظلومين إن علموا أو للمسلمين إن جهلوا‏.‏

مسألة

قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ لا بأس بحضور أهل الفضل الأسواق يشتري لنفسه، وإن سومح لفضله وحاله فلا بأس به؛ لأنه شيء كان منهم إليه دون سؤال، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنهم يدخل السوق، وسالم بن عبد الله، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏"‏ ردا لقول المشركين‏:‏ ‏"‏ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ‏"‏‏.‏

مسألة

قال‏:‏ مال بيت المال إن كان مجباه حلالا وقسم على الوجه المشروع فتركه إنما يكون ‏(‏ورعا‏)‏ وإيثارا لغيره على نفسه وهو حسن، وإن كان محتاجا إليه فهو

ممن قال الله فيهم‏:‏ ‏"‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏"‏ وإن كان المجبا حلالا ولم يعدل في قسمته فمن العلماء من كره أخذه، وأكثرهم يجيزه، وإن كان المجبا حلالا وحراما فأكثرهم كرهه وأجازه أقلهم، فإن كان حراما صرفا حرم مالك الأخذ منه، ومن العلماء من أجازه ومنهم من كرهه وهم الأكثرون؛ لأنه اختلط وتعذر رده غير أن غيره أحسن منه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ معاملة الذمي آكل الربا وبائع الخمر في ذلك المال أخف من المسلم، قال‏:‏ لكونه غير مخاطب بفروع الشريعة على الصحيح من الأقوال، وأجمعوا على أنه لو أسلم حل له ثمن الخمر ومال الربا، بخلاف المسلم لو تاب، وله أن يعطيه في الجزية‏.‏

مسألة

قال‏:‏ جزم أصبغ بتحريم كراء القياسر والحوانيت المغصوبة والمبنية بالمال الحرام، ولا يقعد عندهم في تلك الحوانيت ولا تتخذ طريقا إلا المرة بعد المرة إذا احتاج إلى ذلك، ولم يجد منه بدا، وكذلك قاله ابن القاسم في المسجد، قال أصبغ‏:‏ وما اكتسب في الحوانيت فهو حرام، قال ابن رشد‏:‏ مقتضى الأصول عدم التحريم في المكتسب في الحوانيت، ويلزمه الكراء لها في المدة الماضية، ويحرم المقام فيها، وأما المبنية بالحرام فلا يحرم كراؤها بل يكره، قال‏:‏ لأن البنيان لبانيه، والحرام مرتب في ذمته، وكذلك المسجد تكره الصلاة فيه فقط، والمال الحرام الذي لا يعلم ربه سبيل الفيء لا سبيل الصدقة على المساكين، وعلى هذا تجوز الصلاة دون كراهة إذا جهل صاحب المال الحرام الذي بني به المسجد‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ إذا غصبك وقضي عليك وليس عنده إلا مال حرام

قال أصبغ لا يأخذ ويتبعه بماله عليه، وإن دفع لك اللص أو الغاصب غير مالك لا يحل لك أخذه، قال والذي يقتضيه القياس أخذ قيمة متاعه وإن استغرق ذمته الحرام‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال أصبغ‏:‏ الذي لا يؤدي زكاته ماله كله فاسد، لا يعامل ولا يؤكل منه، وإن عامله أحد تصدق بما وصل إليه منه كمعامل الغاصب؛ لأنه غاصب للمساكين، بل أشد من الغاصب، وليس من ظلم واحدا كمن ظلم الناس أجمعين؛ لأن الزكاة ظلم الفقراء والمساكين والأصناف الثمانية، وللمشتري منه الرد عليه، قال وهذا من أصبغ على أصله أن المال الذي بعضه حرام حرام كله، وأما على رأي ابن القاسم إذا كان غالب ماله الحلال جازت معاملته، وأما إذا كان ناويا إخراج الزكاة فتجوز وهبته، وعلى الواهب إثم التأخير‏.‏

وقوله‏:‏ يتصدق بما عامله فيه فلا وجه له، بل يتصدق بنائب المساكين وهو ربع عشرة‏.‏

وقوله‏:‏ يرد عليه ما اشتراه سواء على أصله ما ابتاع من الطعام الذي لم يزكه، أو باع منه شيئا بدنانير لم يؤد زكاتها، وقيل‏:‏ لا يرد في الوجهين وهو المتجه على قول ابن القاسم في المدونة‏:‏ إذا باع الثمرة بعد وجوب الزكاة لا يأخذها المتصدق من المشتري إن كان البائع عديما، وقيل‏:‏ له ذلك في الطعام دون الدنانير، ولا خلاف أن من باع واشترى من مستغرق الذمة بالحرام وهو لا يعلم أن له الرد؛ لأنه لم يرض بمعاملة الذمة الحرام‏.‏

مسألة‏:‏

قال إمام الحرمين في كتابه الغياثي‏:‏ لو طبق الحرام الأرض جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجات ولا تقف إباحة ذلك على الضرورات لئلا يؤدي إلى ضعف العباد، واستيلاء الكفرة على البلاد، وتنقطع الناس عن الحرف والصنائع بسبب الضعف، ولا ينبسط فيه كما ينبسط في المباح، قال‏:‏ وصورة هذه المسألة أن يجهل المستحق بحيث يتوقع معرفته، فلو حصل الإياس منه

بطلت المسألة وصار ذلك المال من بيت المال، وإنما جاز ذلك للضرورة، فإن جاز لمن حصلت له ضرورة أموال الناس وهو واحد، فجميع الناس أولى، وقد يكون ذلك فاسقا عند الله تعالى، والغالب أن الجماعة لا تخلو من ولي صالح‏.‏

مسألة‏:‏

قال بعض العلماء‏:‏ إذا دفع إلينا الظلمة بعض أموال الناس وعلمنا أنه مغصوب والآخذ ممن يقتدى به وأخذه يفسد ظن الناس فيه حرم عليه أخذه لما فيه من تضييع مصالح الفتيا والاقتداء، وهذه المصالح أرجح من رد المغصوب على ربه، وإن كان غير مقتدى به وأخذه لنفسه حرم عليه، أو ليرده على المغصوب منه جاز، فإن جهل مالكه وجب عليه أن يعرفه، فإن تعذرت معرفته صرفه في المصالح العامة، وإن كان المال مأخوذا بحق فإن كان من أهل ذلك المال لكونه من أهل الزكاة أو الخمس وأعطي قدر حقه أخذه، أو زائدا أخذ حقه ويبقي الزائد عنده لأهله، وإن كان من الأموال العامة أخذه إن لم تفت بأخذه مصلحة الفتيا والاقتداء وصرفه في الجهات العامة‏.‏

قاعدة‏:‏ كل محرم إما لأجل وصفه كالخمر، أو سببه كالبر المغصوب، وكل ما حرم بوصفه فلا يحل إلا بسببه كالميتة مع الضرورة، وكل ما حل بوصفه فلا يحرم إلا بسببه، وقد يقع التعارض في الوصف كالضبع من جهة أن لها نابا وأنها كانت تباع في الحرم من غير نكير، وقد يقع في السبب كالعقد المختلف فيه وتعارض الأدلة فيكون ذلك موجبا للورع، ثم الشبهة على قسمين‏:‏ قسم يجوز الإقدام معه كشبهة الورع، وشبهة يحرم الإقدام معها كشبهة درء الحد كالأمة المشتركة‏.‏

تنبيه‏:‏ أجمعت الأمة على أن المفسدة المرجوحة مغتفرة مع المصلحة الراجحة، فكيف وقع الخلاف إذا خالط يسير حرام كثيرا حلالا‏؟‏ والجواب أن الجمع هاهنا متيسر بالإبراء من ذلك اليسير أو الانتظار للقسمة أو الإقرار عند الحاكم وموضع الإجماع حيث يتعذر الجمع‏.‏

مسألة‏:‏

في الجواهر‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ عماد الدين وقوامه هو المطعم وطيبه، فمن طيب مطعمه زكى عمله، وإلا خيف عليه عدم القبول لقوله تعالى‏:‏،‏"‏ إنما يتقبل الله من المتقين ‏"‏ وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ من المؤمنُ‏؟‏ قال‏:‏ الذي إذا أمسى سأل‏:‏ من أين قرصه، قالت يا رسول الله من المؤمن‏؟‏ قال الذي إذا أصبح سأل‏:‏ من أين قرصه، قالت‏:‏ يا رسول الله، لو علم الناس لتكلفوه، قال‏:‏ قد علموا ذلك ولكنهم غشموا المعيشة غشما أي تعسفوا تعسفا، ونظر عليه السلام إلى المصلين فقال‏:‏ لا يغرني كثرة رفع أحدكم رأسه وخفضه، الدين الورع في دين الله، والكف عن محارم الله، والعمل بحلال الله وحرامه وقال الحسن‏:‏ الذكر ذكران‏:‏ ذكر اللسان فذلك حسن، وأفضل منه ذكر الله عند أمره ونهيه‏.‏

تنبيه‏:‏ الدين أن يتكيف القلب بخوف الله وإجلاله حتى يكون بحيث يشق عليه مشقة عظيمة أن يجده الله تعالى حيث نهاه أو يفقده حيث اقتضاه، فهذا هو الرجل الدين، ليس بكثرة الأعمال الظاهرة، ولكن هذه الحالة قد يجعلها الله ثمرة الأعمال الظاهرة‏.‏

تنبيه‏:‏ إذا وقعت العبادة بشروطها وأركانها فقد أجزأت إجماعا وبرئت الذمة، فما معنى القبول الذي يشك فيه بعد ذلك‏؟‏ قال العلماء‏:‏ القبول الذي يختص بالمتقين هو ترتيب الثواب ورفع الدرجات بها وفيض الإحسان وهو غير الإجزاء؛ لأن الإجزاء معناه أنه صار غير مكلف بتلك العبادة، وهذا عدم المؤاخذة، ولا يلزم من عدم المؤاخذة حصول الدرجات والمثوبة‏.‏

فرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ ليس من الورع شراء ما اشتري شراء فاسدا فإن فواته بالبيع

إنما هو يمنع بعضه، والشبهة قائمة فيه للخلاف في تقرر الملك بين العلماء، وكذلك يكره شراء طعام ممن أكرى الطعام بالطعام وإن كان الطعام له لفساد العقد، ويتحرى أبدا الأشبه، وإذا أخبر البائع أن طعامه حلال وهو ثقة يعلم حدود الشرع صدق، وإلا لم يتحقق الورع، لكنه خير ممن يقول‏:‏ لا أدري، وما غلب عليه الريبة في الأسواق اجتنب حتى يظهر صحة أصله، وإذا لم يوجد ما يتحرى به إلا سؤال الباعة اعتمد على أصدقهم، ومنع سحنون رجلا كسبه من بلاد السودان، أن يعمل قنطرة يعبر الناس عليها، وليس في كسب بلاد السودان إلا السفر إليها، فيجتهد الإنسان بحسب الإمكان‏.‏

النوع الرابع والعشرون‏:‏ ترك الإنسان ما لا يعنيه

وفي الجواهر‏:‏ لا ينبغي للإنسان أن يرى إلا محصلا حسنة لمعاده، أو درهما لمعاشه، ويترك ما لا يعنيه، ويتحرس من نفسه، ويقف عما أشكل عليه، ويقلل الرواية جهده، وينصف جلساءه ويلين لهم جانبه، ويلتزم الصبر ويصفح عن زلة جليسه، وإن جالس عالما نظر إليه بعين الإجلال، وينصت له عند المقال، وإن راجعه راجعه تفهما، ولا يعارضه في جواب سائل سأله، فإن يلبس بذلك على السائل ويزري بالمسئول، وبقدر إجلال الطالب للعالم ينتفع به، ومن ناظره في علم فبالسكينة والوقار وترك الاستعلاء، وحسن التأني وجميل الأدب معينان على العلم، والعالم أولى الناس بصيانة نفسه عن الدناءة، وإلزامها الخير والمروءة، ولا يجلس مجلسا لا يليق به، فإن ابتلي بالجلوس فليقم بحق الله تعالى في إرشاد من استحضره ووعظه، ولا يتعرض منه حاجة لنفسه، ومن إجلال الله تعالى إجلال العالم العامل والإمام المقسط، ومن سمة العالم أن يعرف زمانه ويقبل على شأنه حافظا للسانه متحذرا من إخوانه، فلم يؤذ الناس قديما إلا معارفهم، والمغرور من اغتر بمدحهم‏.‏

النوع الخامس والعشرون‏:‏ في المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام

قال الباجي‏:‏ قال ابن دينار في قوله عليه السلام في الموطأ‏:‏ أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون‏:‏ يثرب وهي المدينة، قال ابن دينار‏:‏ من سماها يثرب كتبت عليه خطيئة، فإن الله تعالى سماها المدينة على لسان نبيه، وسماها المنافقون يثرب في قوله تعالى ‏(‏يا أهل يثرب‏)‏ قال الباجي وهو اسمها قبل الإسلام، واسمها بعده المدينة وطابة وطيبة، وإجماع أهلها حجة فيما طريقه النقل اتفاقا، وأما ما طريقه الاجتهاد فكذلك عند أكثر أصحابنا، قال ابن أبي زيد‏:‏ قال النخعي‏:‏ لو رأيت الصحابة يتوضئون إلى الكوعين لتوضأت كذلك فإنهم لا يتهمون في ترك السنن وهم أرباب العلم وأحرص خلق الله تعالى على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في مقدمة الكتاب كون إجماعها حجة، وفي كتاب الحج التفضيل بينها وبين مكة بأدلة ذلك مفصلا‏.‏

النوع السادس والعشرون‏:‏ في الفرار من الوباء والطاعون

في الصحاح قال عليه السلام‏:‏ إذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وقال عليه السلام‏:‏ الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه‏.‏

قال الباجي‏:‏ لا يقدم على الوباء؛ لأنه تغرير بالنفس، ولا يخرج منه؛ لأنه استسلام لقدر الله، والرجس‏:‏ العذاب، وأول وقوع الطاعون كان عذابا، وهو اليوم شهادة لمن وقع به من المؤمنين، وهو أحد التسعة الشهداء، ويجوز الخروج من بلاد الوباء لغرض آخر غير الفرار، قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ لا بأس

بالقدوم على أرض الوباء، والنهي الوارد نهي إرشاد لا تحريم، من باب نهيه عليه السلام أن يحل الممرض على المصح لئلا يقع في نفسه إن ما أصابه شيء أنه لو لم يقدم لنجا منه، بل لا محيد لأحد عن قدر الله تعالى، ويؤجر إذا قدم عليه معتقدا أن أن ما أصابه بقدر الله وما أخطأه لم يكن يصيبه، ويؤجر إن لم يقدم عليه اتباعا للنهي النبوي، قال‏:‏ فهذا وجه تخيير مالك، وكذلك قوله عليه السلام‏:‏ لا تخرجوا فرارا منه ليس بتحريم، بل المقام أفضل استسلاما للقدر، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون، وهو غدة كغدة البعير تخرج في التراقي والإباط‏.‏

وفي كون الأفضل المقام ببلد الوباء أو الخروج ثلاثة أقوال بعد الإجماع على عدم الإثم‏:‏ الأفضل أن يقدم عليه ولا يخرج، وهو قول من أشار به من المهاجرين في قضية عمر بالشام، والأفضل عدم القدوم والخروج عنه قاله عمرو بن العاص، والأفضل عدم القدوم وعدم الخروج، قال إمام الحرمين‏:‏ منع من القدوم على الوباء؛ لأن هواء ذلك البلد قد عفن وصار مفسودا مسموما، والقدوم على مهلكات النفوس منهي عنه، والخروج منه منهي عنه؛ لأن الهواء المسموم وغيره في كل بلد تعلق بأهلها علوقا شديدا بواسطة التنفس والإحاطة بهم فلا يشعر بها للخروج إلا وقد حصل منه في جسم الخارج ما يقتضيه مزاجه الخاص به وذلك الهواء كما أجرى الله تعالى عادته فلا ينفعه الخروج فهو عبث، والعبث منهي عنه، وربما أضره السفر بمشقته فكان ذلك عونا للهواء على الموت والمرض‏.‏

النوع السابع والعشرون‏:‏ الغناء وقراءة القرآن بالألحان ونحوه

وفي البيان‏:‏ الذي عليه أكثر المفسرين في قوله تعالى ‏"‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏"‏ أنه الغناء واستماعه بشراء المغنية، ومن الناس من يشتري ذات لهو الحديث؛ أو يكون بمعنى يحبه أو يختاره ‏"‏ أولئك الذين

اشتروا الضلالة بالهدى ‏"‏ وقيل‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث كان يشتري أحاديث الروم وفارس ويحدث بها قريشا فيلهيهم بها، وقال عليه السلام‏:‏ أكل أثمان المغنيات حرام لا يحل تعليمهن‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن اشترى المغنية لا يريدها لعملها الغناء ولم يزد في ثمنها لغنائها فلا بأس به، وثمن المغنيات حرام، فإن اشتراها بأكثر من ثمنها لأجل غنائها فهو حرام على البائع مكروه للمبتاع، ولا يحرم جميع الثمن بل الزائد لأجل الغناء، كالبائع خمرا وثوبا صفقة واحدة تحرم حصة الخمر فقط‏.‏

فرع‏:‏

في المقدمات‏:‏ إن اشتراها فوجدها مغنية والغناء يزيد في قيمتها، هل له الرد‏؟‏ قولان، قال‏:‏ والذي أراه إن كانت رفيعة للاتخاذ، له الرد لخوف لحوق ذلك بالولد، وإلا فليس عيبا وهو قول مالك‏.‏

النوع الثامن والعشرون‏:‏ شد الأوتار ونحوها على الدواب

وفي مسلم‏:‏ نهى عليه السلام عن شد الأوتار على الخيل، وفي الموطأ‏:‏ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا والناس في مقيلهم‏:‏ لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت، قال مالك‏:‏ أرى ذلك من العين، قال الباجي‏:‏ مذهب مالك اختصاص النهي بالأوتار، قال ابن القاسم‏:‏ لا بأس به من غير الوتر، فإن قلد الجمال لا للعين جاز، ووجه النهي أن صاحب الإبل يعتقد أن شد ذلك يرد العين والقدر، وذهب بعضهم إلى تحريم التعليق على الصحيح من بني آدم وغيره من البهائم شيئا من التمائم خوف العين، وجوزه للسقيم، وقول مالك والفقهاء جوازه في الوجهين، كما يجوز أن يفصد خوف ضرر الدم قبل المرض كما يفعله بعده، فيجوز قبل العين وبعدها بالدعاء والحرز، وقيل‏:‏ في قوله عليه السلام لا تقلدوا الخيل الأوتار معناه لا تركبوها في الثأر وطلب الفتن‏.‏

وكره مالك الجرس لصوته وقال‏:‏ هو أشد، ويجوز تعليق العوذة فيها القرآن

وذكر الله على الإنسان إذا خرز عليها جلد، ولا خير في ربطه بالخيط ‏[‏وتباح قشرة الأشجار‏]‏ وعنه عليه السلام العير التي يصحبها جرس لا تصحبها الملائكة‏.‏ قيل‏:‏ هو الجلجل الكبير أما الصغير فلا، قال صاحب البيان‏:‏ الأجراس والقلائد بغير ذكر الله تعالى في أعناق الإبل مكروهة عند عامة العلماء للحديث، وكلما عظم الجرس كان أشد كراهة، ويحتمل في تعليله شبهه بالناقوس، وقيل‏:‏ إنما يكره الوتر؛ لأن البهيمة قد تختنق به في شجرة ونحوها، والخيط ينقطع سريعا‏.‏

النوع التاسع والعشرون‏:‏ السوائب والبحائر

قال صاحب البيان‏:‏ قال النبي عليه السلام‏:‏ أول من نصب النصب وسبب السوائب وغير عهد إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي ولقد رأيته في النار يجر نصبه يؤذي أهل النار برائحته، وأول من بحر البحائر رجل من بني مدلج عمد إلى ناقتين له فجذع أذنيهما وحرم ألبانهما وظهورهما، ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما، ولقد رأيته وإياهما يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما‏.‏

قال صاحب البيان‏:‏ كانوا إذا الناقة تابعت اثنى عشر أنثى ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وما أنتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها وخلي سبيلها مع أمها في الإبل لا يركب ظهرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف فهي البحيرة ابنة السائبة، والوصيلة الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر جعلت وصيلة، وكان ما ولدته بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم‏.‏

الحامي‏:‏ الفحل يتم لم عشر ‏[‏إناث متتابعات ليس فيهن ذكر، فيحمي ظهره فلا يركب ولا يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع به لغير

ذلك‏]‏ فالسائبة من السياب؛ والبحيرة من البحر وهو الشق، ومنه البحر؛ لأنه شق في الأرض؛ والحام من الحمى وهو المنع؛ والوصيلة من الصلة؛ لأنها وصلت أربابها بولدها، وقال قتادة‏:‏ البحيرة الناقة تلد خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء، أو أنثى شقوا أذنها وأرسلوها لا ينحر لها ولد، ولا يشرب لها لبن ولا تركب، والسايبة الناقة تسبب ولا تمنع حوضا تشرب فيه ولا مرعى ترتع فيه، والوصيلة الشاة تلد سبعة أبطن فإن كان السابع ذكرا ذيح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت، وقيل‏:‏ الوصيلة الشاة تلد سبعة أبطن فيذبحون السابع إن كان جديا، وإن كان عناقا فاستحيوهما كليهما وقالوا الجدي وصيلة أخته فحرمته علينا، فقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون‏"‏ وسر التحريم أنهم كانوا يحرمون ما لم يحرمه الله فلا يضر الجهل بذلك وكيفيته، فمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم النار في الدنيا فرأى فيها عمرا ممثلا فيها يجر قصبه وهي مصارينه على الحال التي يكون عليها في الآخرة، قاله صاحب البيان‏.‏

النوع الثلاثون‏:‏ في مسائل شتى

قال صاحب الاستذكار اختلف في قوله عليه السلام في الموطأ وغيره‏:‏ كل مولود يولد على الفطرة، فقيل‏:‏ الخلقة، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فاطر السموات‏"‏ أي‏:‏ خالقها أي فارغ من جميع الأديان، وهو أصح الأقوال، وقيل‏:‏ الاستقامة كقول موسى للخضر‏:‏ ‏"‏أقتلت نفسا زكية بغير نفس‏"‏ وكان طفلا‏.‏

وقيل‏:‏ الإسلام قاله عامة السلف، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏"‏ أي‏:‏ دين الله، ولقوله في الحديث نفسه‏:‏ كما تناتج الإبل من بهيمة جمعا هل تحس من جذعا‏.‏ أي‏:‏ خلقت سليمة من العيوب، وكذلك المولود خلق سليما من الكفر، وقيل‏:‏ البدأة، أي‏:‏ كل مولود يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء أو السعادة، والفاطر‏:‏ المبتدئ، ويعضده قوله عليه السلام لما سئل عن أطفال المشركين‏:‏ الله أعلم بما كانوا عاملين‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏"‏ وقيل‏:‏ الفطرة الإيمان طوعا وكرها؛ لأنه تعالى لما قال للذرية يوم البذر ‏"‏ألست بربكم قالوا بلى‏"‏ فأهل السعادة قالوها عن علم، وأهل الشقاء قالوها عن إكراه وجهل، يؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها‏"‏ قلوا وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ كما بدأكم تعودون ‏"‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قالت طائفة‏:‏ أولاد الناس كلهم المؤمنين والكافرين الأطفال إذا ماتوا موكولون لمشيئة الله من نعيم وعذاب؛ لأنه أعلم بما كانوا به عاملين، وقال الأكثرون‏:‏ أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار في المشيئة، لقوله عليه السلام‏:‏ ما من المسلمين من يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله وإياهم الجنة بفضله ورحمته، وقيل‏:‏ الأطفال كآبائهم في الدنيا والآخرة لقول عليه السلام‏:‏ هم من آبائهم، وقيل‏:‏ أولاد الكفار وغيرهم في الجنة، وقيل‏:‏

يمتحنون بنار تؤجج لهم من دخلها دخل الجنة وإلا دخل النار، وهو مروي عنه عليه السلام، وكره جماعة الكلام في الأطفال والقدر، فهذه خمسة مذاهب في الفطرة، وستة في الأطفال‏.‏

مسألة‏:‏ في التنعم

قال صاحب البيان‏:‏ قال عمر رضي الله‏:‏ إياك والتنعم وزي العجم، إنما قال ذلك؛ لأن التنعم بالمباح يسأل عنه وعن حق الله تعالى فيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم‏"‏ وفي الحديث المشهور‏:‏ لتسألن عن نعيم يومكم هذا، ورأى عمر رضي الله عنه جابر بن عبد الله فقال له‏:‏ ما هذا معك‏؟‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، قرمنا إلى اللحم فاشتريت بدرهم لحما، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ‏"‏‏.‏

قال مالك‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في المدينة منخل ينخل به دقيق، بل يطحن الشعير ثم ينفض فما طار طار وما بقي بقي، ولكنهم اتسعوا بعد ذلك بالفتوحات فكان لكثير منهم أموال عظيمة، فكانت تركة الزبير بن العوام خمسين ألف ألف ومائتي ألف بعد أداء دينه وهو مائتا ألف ألف ومائة ألف، وكانوا في الحالين مشكورين، صبروا عند القلة، وجادوا عند الكثرة، وكتبت لهم أجور الزكاة والنفقات وغير ذلك من القربات، وكان مال عبد الرحمن بن عوف يقطع بالفئوس، وناب إحدى زوجاته الأربع في نصيبها من الثمن ثمانين ألفا‏.‏

واختلف الناس في الفقر والغنى على أربعه أقوال‏:‏ فقيل‏:‏ الغنى أفضل، وقيل‏:‏ الفقر، وقيل‏:‏ الكفاف، وقيل‏:‏ بالوقف، وهذا في حق من يقوم في كل حالة بما يليق بها، أما من لا يقوم بما يتعين عليه في حالة منها فلا خلاف أن الحالة الأخرى أفضل له، ففي الحديث‏:‏ إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، وإن من

عبادي من لا يصحله إلا الغنى‏.‏ والفقر والغنى ليسا حسنين لذاتهما، بل بالنسبة لآثارهما في الناس، قال‏:‏ والذي أراه تفضيل الغنى على الفقر، وتفضيل الفقر على الكفاف، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏واسألوا الله من فضله‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ووجدك عائلا فأغنى‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا‏"‏ وقال عليه السلام‏:‏ ذهب أهل الدثور بالأجور‏.‏ وكان عليه السلام في آخر عمره على أكمل أحواله، وكان يدخر قوت عياله سنة، ولم يكن ذلك قبل ذلك، ونهى عليه السلام عن إضاعة المال، والآيات والأحاديث كثيرة جدا‏.‏

وكل ما يتصور من الفقير من الصبر والرضى يتصور من الغني في الإيثار، وليس كل ما يتصور من الغني من القربات يتصور من الفقير، قال‏:‏ وإنما قلت إن الفقر أفضل من الكفاف؛ لأن صاحب الكفاف يشكر الله على نعمته عليه في الكفاف، والفقير يؤجر من وجهين‏:‏ الصبر والرضا‏.‏

احتجوا لتفضيل الفقر بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏"‏ وبأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وبقوله عليه السلام‏:‏ الفقراء أكثر أهل الجنة‏.‏ ولأن الفقير أيسر حسابا وأقل سؤالا لا من أين اكتسبت وفيما أنفقت‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أن الأغنياء يساوونهم في الصبر على الإيسار ومخالفة الهوى‏.‏

وعن الثاني‏:‏ لا يلزم من سبقهم للدخول أن تكون درجتهم أعلى ولا مساوية‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن الفقراء أكثر في الدنيا فهم أكثر في الجنة، ولا يلزم من ذلك علو الدرجة‏.‏

وعن الرابع‏:‏ أن السؤال يقع نعيما لقوم وعذابا لقوم، فالمحسن يجيب بحسناته فينعم بذلك، والمسيء يجيب عن السؤال بفعله وتصرفه الدنيء فيتعذب بجوابه، فلا يضر الغني الشاكر السؤال بل ينفعه، واحتج مفضل الكفاف بقوله عليه السلام‏:‏ اللهم ارزق آل محمد الكفاف واجعل قوت آل محمد كفافا‏.‏ ودخل عباد على ابن هرمز في بيته فرأى فيه أسرة ثلاثة عليها ثلاث فرش ووسائد ومجالس معصفرة، فقال له يا أبا بكر‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال ابن هرمز‏:‏ ليس بهذا بأس، وليس الذي تقول بشيء، أدركت الناس على هذا، وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، فما فضل عند الرجل من المال بعد أداء الواجب فلبس من رفيع الثياب وأكل من طيب الطعام وركب من جيد المراكب فحسن من غير إسراف، فإن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده كما في الحديث، وفي مسلم يقول الله تعالى‏:‏ يا عبدي أنفق أنفق عليك‏.‏

تنبيه‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ الحساب والمساءلة لا يدخلان في المباح لما تقدم من أن المساءلة تكون نعيما لقوم وعذابا لقوم، وكذلك الحساب عند الطاعات على العبد المطيع نعيم له، وعند العاصي عذاب له، وإلا فالله تعالى بكل شيء عليم، فلولا ذلك لم يكن للمساءلة معنى ولا للحساب معنى، وعلى هذا لا يدخلان في المباح؛ لانتفاء الثواب والعقاب منه، فيتعين حذف مضاف في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لتسألن يومئذ عن النعيم‏"‏ تقديره‏:‏ لتسألن يومئذ عن شكر النعيم‏.‏

وكذلك في قوله عليه السلام‏:‏ لتسألن عن شكر نعيم يومكم هذا، وشكر الله تعالى طاعته، وطاعته مسئول عنها‏.‏

مسألة‏:‏ في الحياء

في الموطأ‏:‏ قال عليه السلام‏:‏ لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء، وقال عليه السلام‏:‏ الحياء من الإيمان، قال الباجي‏:‏ معنى خلق الإسلام‏:‏ أي شأنه الذي بني عليه وجعل من جملة أعماله، والمراد فيها شرع الحياء فيه دون الحياء المفضي لترك تعلم العلم والعمل، قال الحسن البصري‏:‏ لا يتعلم العلم مستحي ولا متكبر، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم بالحق، والقيام بحق الشهادة والجهاد في الله تعالى، وقوله عليه السلام‏:‏ الحياء من الإيمان أي‏:‏ من جنسه، بينهما جنس عام، وهو أن الإيمان يحث على الخير وينهى عن الشر، وكذلك الحياء يحث على المكارم وينهى عن المساوئ‏.‏

مسألة‏:‏ في الغضب

في الموطأ‏:‏ جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تغضب‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، قال الباجي‏:‏ جمع له عليه السلام جوامع الخير في قوله‏:‏ لا تغضب، فإن الغضب يدخل عليه الآثام وعلى الناس في معاداته وتفوت عليه مصالح دنياه وأخراه، ومعنى لا تغضب‏:‏ لا تمضي ما يبعثك عليه غضبك، فالمنهي عنه آثار الغضب لا الغضب؛ لأنه يهجم على النفس قهرا عند أسبابه، ويتفاضل الناس أيضا في مدافعة الغضب عن أنفسهم، فبسبب المدافعة لا يغضب من السبب الحقير، وهذا في أسباب الدنيا، وأما في القيام بالحق فقد يجب الغضب في الجهاد وأهل العناد بالباطل

وغيره، وقد يكون مندوبا إذا علمت أنه يبعث على الخير ويحث على ترك الشرور ممن يعلم ذلك منك، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال‏:‏ ما لك ولها‏.‏ ويحتمل أن يكون هذا السائل في الحديث الأول علم منه كثرة الغضب فخصه عليه السلام بالوصية على ترك الغضب، والصرعة الذي يكثر منه أن يصرع الناس، كالهزأة والضحكة والنومة، وقوله عليه السلام‏:‏ ليس الشديد بالصرعة‏.‏ لم يرد نفي الشدة عنه، فإنه بالضرورة شديد، بل أراد نفي الشدة التامة أو الشدة النافعة، فإن الذي يملك نفسه عند الغضب هو أعظم شدة وانفتح نفعا عظيما، كما قال عليه السلام‏:‏ إنما الكريم يوسف، لم يرد نفي الكرم عن غيره، بل أراد إثبات مزية له في الكرم منفية عن غيره‏.‏

مسألة‏:‏ في الضيافة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليله، وضيافته ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه‏.‏ قال الباجي‏:‏ أول من ضيف إبراهيم عليه السلام قال تعالى‏:‏ ‏"‏هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين‏"‏ فأخبر تعالى أنهم أكرموا، وهي واجبة عند الليث بن سعد يوما وليلة، وخالفه جميع الفقهاء لقوله عليه السلام فليكرم، والإكرام ليس بواجب، ولو قال‏:‏ فليضفه اتجه، وقد يجب للمجتاز المضرر بالجوع، قال مالك‏:‏ الضيافة إنما تتأكد على أهل القرى، ولا ضيافة في الحضر لوجود الفنادق وغيرها، ولأن القرى يقل الوارد إليها فلا مشقة بخلاف الحضر، وهذا في غير المعرفة ومن بينكما مودة، وإلا فالحضر

والقرى سواء، قال عيسى بن دينار‏:‏ جائزته يوم وليلة أن يتحفه ويكرمه جهده، أو تختص الجائزة بمن لم يرد المقام والثلاث بمن أوردها، والزيادة صدقة، أي‏:‏ غير متأكدة‏.‏

مسألة‏:‏ في المحبة في الله

ففي الموطأ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله تعالى يوم القيامة أين المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي، قال الباجي‏:‏ يكون الناس في حر الشمس إلا من يظله الله تعالى في ظله، وقال ابن دينار‏:‏ معناه أمنعه من المكاره وأصرف عنه الأهوال، وليس معناه حر ولا شمس، وقال عليه السلام‏:‏ وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في، وفي هنا للسببية، أي‏:‏ بسبب طاعتي يكون ذلك منهم، ‏[‏وقولنا أحب في الله وأبغض في الله، أي بسبب طاعة الله يحب، وبسبب معصيته يبغض‏]‏‏.‏

مسألة‏:‏ في قتل الكلاب واقتنائها

وفي الموطأ‏:‏ قال عليه السلام‏:‏ من اقتنى كلبا لا يغني عنه ضرعا ولا زرعا نقص من عمله كل يوم قيراط، وفي حديث آخر قيراطان، قال الباجي قال مالك‏:‏ تتخذ الكلاب للمواشي، ‏[‏قيل له‏:‏ فالنخاسون الذين يدعون دوابهم قال هي كالمواشي، لاتتخذ خوف اللصوص في البيوت إلا أن تسرح مع الدواب في الرعي، ولا يتخذ المسافر كلبا يحرسه‏]‏ وسبب المنع ترويع الناس بها، وتجوز للصيد، وطريق الجمع بين قيراط وقيراطين أن القيراطين في الجنس الذي يكثر ترويعه للناس، وفي الموطأ‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلام، قال الباجي‏:‏ قال مالك‏:‏ تقتل الكلاب ما يؤذي منها وما يكون في موضع لا ينبغي أن يكون فيه كالفسطاط، ولا يمنع ذلك الإحسان إليها حال حياتها، ولا تتخذ عرضا ولا

تقتل جوعا ولا عطشا لقوله عليه السلام‏:‏ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‏.‏ وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا تقتل الكلاب، وهذا الحديث منسوخ بنهيه عليه السلام عن قتل الكلاب إلا الأسود البهيم، ولم ير مالك نسخة إما لعدم بلوغ الناسخ له أو لأنه تأوله‏.‏

مسألة‏:‏ فيما يكره من الأسماء

وفي الموطأ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنعجة تحلب‏:‏ من يحلب هذه‏؟‏ فقام رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما اسمك‏؟‏ فقال‏:‏ مرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجلس، ثم قال‏:‏ من يحلب هذه‏؟‏ فقام رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما اسمك‏؟‏ فقال‏:‏ حرب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجلس، ثم قال‏:‏ من يحلب هذه‏؟‏ فقام رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما اسمك‏؟‏ فقال‏:‏ يعيش، فقال‏:‏ احلبها‏.‏ قال الباجي‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره من الأسماء ما يقبح منها وسألهم عن أسمائهم ليناديهم بها أو ليتفاءل بها، وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم ابنة عمر بن الخطاب كان اسمها عاصية فسماها جميلة، قال‏:‏ والفرق بين هذه وبين الطيرة أن الطيرة ليس في لفظ ما يتطير به ولا في معناه ما يكره، بل مجرد الوهم الفاسد وسوء الظن بالله تعالى، قال‏:‏ والمنع في الأسماء لثلاثة أسباب‏:‏ القبح كما تقدم، أو لمخالفة الدين كما كره اسم امرأة اسمها برة فقال‏:‏ تزكي نفسها وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب‏.‏

قال مالك‏:‏ ولا يسمى بياسمين ولا بمهدي ولا جبريل والهادي أقرب‏.‏

قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ يقول الله‏:‏ ‏"‏يس والقرآن الحكيم‏"‏ يقول‏:‏ هذا اسمي يس، قال صاحب البيان قيل‏:‏ هو اسم الله تعالى، وقيل‏:‏ هو اسم القرآن، فعلى هذين تمتنع التسمية به، وعن ابن عباس معناه يا إنسان بالحبشة، وعن مجاهد مفتاح افتتح الله به كلامه، فعلى هذين تجوز التسمية به، فكرهه مالك للخلاف فيه‏.‏

وفي المنتقى‏:‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسمي رفيقنا بأربعة أسماء‏:‏ أفلح، ورباح، ويسار، ونافع؛ لأنه يقال، ثم هو‏؟‏ فتقول لا، وقد تمتنع التسمية منع تحريم لما فيها من التعاظم الذي لا يصلح إلا لله تعالى، كما في مسلم قال عليه السلام‏:‏ إن أخنع الأسماء رجل تسمى بشاه شاه، مالك الأملاك، قال بعض العلماء‏:‏ يلحق به قاضي القضاة، قال الباجي‏:‏ وقد يختص المنع بحياته عليه السلام كقوله عليه السلام‏:‏ سموا باسمي ولا تتكنوا بكنيتي، وإنما أنا قاسم أقسم بينكم فنهى أن يدعو أحد أحدا‏:‏ أبا القاسم؛ لأن رجلا نادى رجلا بالبقيع‏:‏ يا أبا القاسم، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، إني لم أعنك، ‏[‏وهذا عدم بعده عليه السلام، فلذلك كان يكني بذلك محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن علي بن أبي طالب وغيرهما‏]‏ قال مالك‏:‏ وأهل مكة يتحدثون ما من بيت فيه اسم محمد إلا رأوا خيرا ورزقوا، ومن أفضل الأسماء ما فيه عبودية لله تعالى، قال عليه السلام في الصحيحين‏:‏ أحب أسمائكم إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن‏.‏

والكنى على ضربين‏:‏ صادقة وكاذبة، نحو‏:‏ يا أبا عمير ما فعل النغير، وأبو محمد لعبد الله، وأبو إبراهيم لإسماعيل، فأخبر عليه السلام أن كنيته صادقة‏.‏

فإن قيل‏:‏ الكنية أبو القاسم وهو قاسم الغنائم لا أبو القاسم‏.‏

قلنا الأب هنا ليس على بابه، كالابن في ابن السبيل لملازمته السبيل، والقسمة أشبهت ملازمة الابن أمه أو الأب ابنه، ومنه أبو الفضل وأبو المكارم‏.‏

مسألة‏:‏ في الرفق بالمملوك في الموطأ‏:‏ قال عليه السلام‏:‏ للمملوك كسوته وطعامه بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق، قال الباجي‏:‏ معنى بالمعروف ما يليق به في حاله ونفاده في التجارة، ولا يلزم أن يساوي سيده الأعلى بالأدنى، وعليه عمل الأحاديث الواردة في التسوية‏:‏ أطعموهم مما تأكلون ونحوه، قاله مالك، وقال‏:‏ ليس على السيد بيع عبده إذا اشتكى الغربة، قال‏:‏ ولا بأس أن يقول العبد لسيده‏:‏ يا سيدي، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وألفيا سيدها لدى الباب‏"‏ ‏"‏ وسيدا وحصورا ‏"‏ قيل له‏:‏ يقولون‏:‏ السيد هو الله تعالى، قال‏:‏ إن هذا في كتاب الله تعالى‏.‏

مسألة‏:‏ في تحري الصدق والكذب‏.‏

قال صاحب البيان‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ عليك بالصدق وإن ظننت أنه مهلكك، قال ذلك فيما يلزمك أن تصدع به من الحق لما ترجوه من الصدق والفلاح، وتخشاه من الفساد فالكذب عند السلطان ‏[‏ونحوه، فتقول الحق وإن ظننت الهلاك، فإن تيقنته فتسكت ولا يحل لك الكذب إلا أن تضطر إلى ذلك بالخوف على نفسك، وإنما يلزمك الصدق وإن خفت على نفسك فيما عليك من الحقوق من القتل والسرقة والزنا ونحوه‏]‏‏.‏

والكذب أربعة أقسام‏:‏ كذب لا يتعلق به حق لمخلوق نحو طار الغراب فيحرم إجماعا، وكذب يتعلق به حق لمخلوق نحو فعل زيد كذا ولم يفعله، وهو أشد من الأول؛ لأن الأول تخلص منه التوبة بخلاف الثاني بل يحلله صاحبه أو يأخذه منه، وكذب لا يضر أحدا يقصد به خيرا نحوه في الحرب والإصلاح بين الناس، وكذب الرجل لامرأته فيما يعدها به ويستصلحها به، فقد جوزته السنة، وقيل‏:‏ لا يباح إلا المعارض، وقيل‏:‏ معاريض القول جائزة في كل موطن، قال‏:‏ وأراه مكروها لما فيه من الألغاز فيظن أنه قد كذب فيعرض عرضه للفساد، وكذب في دفع مظلمة لظالم يريد أحدا بالقتل أو الضرب فينكر موضعه وهو يعلمه، فيجب لما فيه من الدفع عن المعصوم، وفي الموطأ‏:‏ قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أأكذب لامرأتي‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا خير في الكذب، فقال الرجل‏:‏ أعدها وأقول لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا جناح عليك، قال الباجي‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ لا خير في الكذب يريد كذبا ينافي الشرع، أما الإصلاح فلا، وقوله‏:‏ أعدها يحتمل أعدها وأنا أريد الوفاء، ‏[‏قال ابن قتيبة‏:‏ الكذب إنما هو في الماضي، والخلف في المستقبل؛ لأن المستقبل قابل للوقوع على وفق الوعد، والماضي تعين كذبه، قال صاحب القبس‏:‏ إخلاف الوعد كذب، وإنما أنكر عليه السلام على الرجل صورة اللفظ؛ لأن الكذب أصله التحريم فلما جاء بلفظ حسن أذن له‏]‏‏.‏

مسألة‏:‏ عذاب العامة بذنوب الخاصة‏.‏

وفي الموطأ‏:‏ قالت أم سلمة‏:‏ يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون، قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث، وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏"‏ وعارض هذه النصوص قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ‏"‏‏.‏

مسألة‏:‏ في سؤال العطاء من الناس

قال صاحب القبس‏:‏ إن كانت المسألة لحاجة ضرورية دينية أو دينوية وجبت عند الفقهاء، والمشقة دون الحاجة ندب إليها إذ يجوز له احتمال المشقة، أو لشهوة كرهت، وإن كان ذلك نادرا أبيحت، ومذهب الفقهاء أن اليد العليا هي المعطية، ومذهب الصوفية هي الآخذة؛ لأنها يد الله تعالى، وأما في الحديث اليد العليا هي المتفقة من كلام الراوي‏.‏

مسألة‏:‏

في التواضع

قال ابن يونس‏:‏ قال عليه السلام لعبد الله بن عمر‏:‏ اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك إذا رفع بنفسه ضربه بها وقال‏:‏ انخفض خفضك الله، وإن تواضع رفعه بها وقال ارتفع رفعك الله‏.‏

مسألة‏:‏ في التحلل من الظالم

قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ إن تسلف منك وهلك لا مال له فالأفضل أن تحلله بخلاف الذي يطلبك، قال صاحب البيان‏:‏ في التحلل ثلاثة أقوال‏:‏ المنع، قاله سعيد بن جبير؛ التحليل أفضل لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور، وفي الحديث قال عليه السلام‏:‏ ينادي مناد يوم القيامة من له حق على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس، وهو معنى قوله تعالى‏:‏‏"‏ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ‏"‏ الثالث‏:‏ تفرقة مالك‏.‏

وجه الأول‏:‏ أنه محتاج للحسنات يوم القيامة؛ وجه التفرقة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إنما السبيل على الذين يظلمون الناس‏"‏ فرأى مالك أن ترك المحاللة عقوبة وزجر له، هذا باعتبار الآخرة، وأما في الدنيا فالعفو عن الظالم والصفح عنه أفضل في بدنه وماله‏.‏

مسألة‏:‏

في رفع اليد في الدعاء

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ لا بأس به، ولا يرفعهما جدا، قال‏:‏ وأجاز الرفع في الدعاء

بعد الصلاة؛ لأنه موضع الدعاء كالاستسقاء وعرفة والمشعر الحرام، واختلف قوله في الدعاء عند الجمرتين ورفع اليدين فيهما، وعنه‏:‏ لا يرفع يديه في الدعاء بعد الصلاة، والأول في المدونة‏.‏

مسألة‏:‏ في الأكل من الحوائط ونحوها

قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ المار بالبساتين لا يأكل منها؛ لأن أجراءها يطعمون منها، وكذلك اللبن من الرعاة إذا لم يطعمه أرباب الماشية، وإن دخل الحوائط فوجد ثمرة في الأرض فلا يأكل إلا من حاجة أو يأذن له ربها، ولا يأكل وإن كان صاحب الحائط صديقه إلا بأذنه، قاله مالك، وكذلك أبوه وأمه وأخوه، وأجازه غيره لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏أو صديقكم‏"‏ ففي المسألة ثلاثة أقوال‏:‏ ثالثها‏:‏ الفرق بين الصديق وغيره، ولا خلاف في الجواز للمحتاج، قال ابن يونس قال مالك‏:‏ إذا جذت النخل وبقي فيها شيء إن علمت طيب نفس صاحبها لك أكله وأخذه، وقال أشهب‏:‏ إن علم أن صاحبه أذن فيه فإن كان يراه فلا بد من إذنه ولعله يستحي منه أو يخافه‏.‏

مسألة‏:‏ فيما يتعلم من علم النجوم

قال صاحب المقدمات‏:‏ يتعلم منها ما يستدل به على القبلة وأجزاء الليل وما مضى منه وليهتدي في ظلمات البر والبحر ويعرف مواضعها من الفلك وأوقات طلوعها وغروبها، وهو مستحب لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر‏"‏ وأما ما يفضي إلى معرفة نقصان الشهر ووقت رؤية الهلال فمكروه؛ لأنه لا يعتمد عليه في الشرع، فهو اشتغال بغير مفيد، وكذلك ما يعلم به الكسوفات مكروه؛ لأنه لا يغني ويوهم العامة أنه يعلم الغيب بالحساب، فيزجر عن الإخبار بذلك ويؤدب عليه‏.‏

وأما ما يخبر به المنجم من الغيب من نزول الأمطار أو غيره، فقيل‏:‏ ذلك كفر يقتل بغير استتابة لقوله عليه السلام‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب، وقيل‏:‏ يستتاب فإن تاب وإلا قتل، قاله أشهب، وقيل‏:‏ يزجر عن ذلك ويؤدب وليس اختلافا في قول بل باختلاف حال، فإن قال‏:‏ إن الكواكب مستقلة بالتأثير قتل ولم يستتب إن كان يستتره؛ لأنه زنديق، وإن أظهره فهو مرتد يستتاب، أو اعتقد أن الله تعالى هو الفاعل عندها زجر عن الاعتقاد الفاسد الكاذب؛ لأنه بدعة تسقط العدالة، ولا يحل لمسلم تصديقه، قال‏:‏ والذي ينبغي أن يعتقد فيما يصيبون فيه أن ذلك على وجه الغالب نحو قوله عليه السلام‏:‏ إذا نشأت سحابة بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة‏.‏

مسألة‏:‏

قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم‏:‏ لا يعلم أبناء اليهود والنصارى الكتاب؛ لأنهم يستعينون بها على الباطل، والله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏‏.‏

مسألة‏:‏

الفقهاء السبعة‏:‏ فقهاء المدينة وعليهم المدار وهم البركة، وأسماؤهم مهمة ينبغي أن تحفظ، وهم‏:‏ سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وقد نظموا في قول الشاعر‏:‏

ألا كل من لا يقتدي بأئمة فقسمته ضيزى عن الحق خارجه

فخذهم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه

مسألة‏:‏

فيما فيه التيامن

قال في المقدمات‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في أمره كله، وقال‏:‏ إذا توضأتم فابدأوا بأيمانكم‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ إذا أكل أحدكم فليأكل وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله ويعطي بشماله‏.‏ فكانت يده اليمنى صلى الله عليه وسلم لطعامه وطهوره، واليسرى لحاجته ‏[‏وما كان من الأذى، قال‏:‏ فإن فعل ما يفعل باليمنى بالشمال أو بالعكس لم يأثم، والذي للشمال الأذى كله، وقد نهى عليه السلام أن يغسل الرجل باطن قدميه بيمينه‏:‏ ولا يستنجى الرجل بيمينه ولا يمس ذكره ولا باطن قدميه ولا يتمخط، وقال بعض العلماء‏:‏ يتمخط بيمينه وينزع الأذى من أنفه بيمينه، وامتخط الحسن بن علي عند معاوية رضي الله عنهم بيمينه، فقال له معاوية‏:‏ بشمالك، فقال له الحسن‏:‏ يميني لوجهي وشمالي لحاجتي، وهو مذهب علي أبيه رضي الله عنهما‏]‏‏.‏

مسألة‏:‏

ما يؤتى من الولائم

قال صاحب المقدمات‏:‏ هي خمسة أقسام‏:‏ واجبة الإجابة إليها، وهي الوليمة في النكاح، لأمره عليه السلام بذلك؛ ومستحب الإجابة وهي المأدبة، وهي الطعام يعمل للجيران للوداد؛ ومباحة الإجابة وهي التي تعمل من غير قصد مذموم كالعقيقة للمولود، والنقيعة للقادم من السفر، والوكيرة لبناء الدار، والخرس للنفاس، والإعذار للختان، ونحو ذلك‏:‏ ومكروه وهي ما يقصد بها

الفخر والمحمدة، لا سيما أهل الفضل والهيئات؛ لأن إجابة مثل ذلك يخرق الهيبة، وقد قيل‏:‏ ما وضع أحد يده في قصعة أحد إلا ذل له؛ ومحرم الإجابة وهي ما يفعله الرجل لمن يحرم عليه قبول هديته كأحد الخصمين للقاضي‏.‏

مسألة‏:‏

في المساجد وما تنزه عنه قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال‏"‏ فتنزه عما عدا هذا، وفي المقدمات‏:‏ تنزه المساجد عن عمل الصناعات وأكل الألوان والمبيت فيها إلا من ضرورة للغرباء، ومن الوضوء فيها، واللغط، ورفع الصوت، وإنشاد الضالة، والبيع، والشراء، وتقليم الأظفار، وقص الشعر، والأقذار كلها، والنجاسات، وقال عليه السلام‏:‏ جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم، واجعلوا مطاهركم على أبوابها، وفي الكتاب‏:‏ يكره أن يبني الرجل المسجد ويبني فوقه بيتا، قال صاحب الطراز‏:‏ ظاهره المنع، عمله للسكن أو مخزنا؛ لأن هواء المسجد مسجد وله حكم المساجد في الحرمة فلا يجامع ولا يبال فيه ويأكل ما لا يزفر ولا يجمع الذباب، وخفف في مساجد القرى في الطعام والميت للأضياف‏.‏

قال مالك‏:‏ لا يؤدب في المسجد، وجوز مالك التعزير بالأسواط اليسيرة بخلاف الكثيرة والحدود، وجوز قضاء الدين بخلاف البيع والصرف؛ لأنه معروف، وجوز أن يساوم رجلا ثوبا عليه أو سلعة تقدمت رؤيتها، وجوز مالك كتب المصحف فيه، وكره سحنون تعليم الصبيان فيه، قال الباجي‏:‏ إن منعه لعله التوقي جازت كتابة المصحف، أو لأنه صنعة منعت كتابة المصحف‏.‏

قال مالك في الكتاب‏:‏ لا يورث المسجد، قال ابن القاسم بخلاف البنيان

تحت المسجد، قال سند‏:‏ إن بنيت مسجدا فأراد أحد أن يبني تحته مسجدا منع لتعين النفقة للمسجد، وإن بنيت مسجدا على شرف فأراد آخر أن ينقب تحته بيتا منع إلا بحكم حاكم؛ لأنه من حقوق المسجد، فإن رأى الحاكم أن ينقب بيتا يرتفق به المسجد جاز، ولا يكون لهذا البيت حرمة المسجد، بل يدخله الحائض والجنب، بخلاف سطح المسجد فإن المسجد يرفع في السماء ولا ينزل في الأرض، ولهذا يجوز التنفل في الكعبة وعلى ظهرها، ولو كان تحتها مطموره أو سرب امتنع التنفل‏.‏

قال وقوله‏:‏ لا يورث المسجد محمول على ما إذا أباحه للناس، أما إذا بنى في بيته مسجدا ليصلي فيه ولا يبيحه للناس يجمع فيه أهل بيته ومن يتضيف به فيورث ويغير؛ لأنه ملكه، قال الطرطوشي‏:‏ ومما أحدثه الناس من البدع في المساجد المحاريب، وكره الصلاة فيه النخعي وسفيان وغيرهما، قال عليه السلام‏:‏ ما أمرت بتشييد المساجد، قال ابن عباس‏:‏ أما والله لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، وقال عليه السلام لما قيل له في مسجده‏:‏ بل عريش كعريش أخي موسى ثمام وحشبات والأمر أعجل من ذلك، وقال علي رضي الله عنه‏:‏ إذا زينوا مساجدهم فسدت أعمالهم، قال مالك‏:‏ وكره الناس ما عمل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من الذهب والفسيفساء، يعني الفصوص؛ لأنه مما يشغل عن الصلاة بالنظر إليه، قال مالك‏:‏ ولا يكتب في جدار المسجد قرآن ولا غيره، قال صاحب البيان‏:‏ تحسين بناء المساجد وتجصيصها مستحب، والمكروه تزويقها بالذهب وغيره والكتابة في قبلتها، ولابن نافع وابن وهب تزيين المساجد وتزويقها بالشيء الخفيف مثل الكتابة في قبلتها ما لم يكثر حتى يصل للزخرفة المنهي عنها‏.‏

فرع‏:‏

قال صاحب البيان‏:‏ كره مالك الدعاء عند دخول المساجد وعند الخروج منها كراهة شديدة؛ لأنه بدعة، وكره الإتيان بالمراوح يتروح بها القوم؛ لأنها رفاهية، والمساجد موضع عبادة‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ المذاكرة في الفقه أفضل من الصلاة‏.‏

فرع‏:‏

قال الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع‏:‏ كره مالك القصص في المسجد، وقال تميم الداري لعمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ دعني أدع الله وأقص وأذكر الناس، فقال عمر‏:‏ لا، فأعاد عليه فقال له‏:‏ أتريد أنا تميم الداري فاعرفوا بي، قال مالك ولا يجلس إليهم وإنه لبدعة، ولا يستقبلهم الناس، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يلفى خارج المسجد فيقول ما أخرجني إلا صوت قاصكم، ولم يظهر القصاص إلا بعد زمان عمر، ولما دخل علي رضي الله عنه المسجد أخرج القصاص منه حتى انتهى إلى الحسن يتكلم في علوم الأحوال والأعمال فاستمع له وانصرف ولم يخرجه، وقال الحسن البصري‏:‏ إعانة رجل في حاجة خير من الجلوس لقاص‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ ولا يتحدث بالعجمة في المسجد، لما قيل‏:‏ إنها خب، ولا يرقد شاب في المسجد ومن له بيت، وأهل الصفة لم يكن لهم بيوت‏.‏

قال ابن حبيب لا بأس بالقايلة في المسجد، والاستلقاء فيه، والنوم للحاضر المقيم ولا يتخذه سكنا إلا رجل تبتل للعبادة وقيام الليل إذا كان وضوؤه ومعاشه في غير المسجد، وكره مالك أن يتخذ الرجل فراشا في المسجد ويجلس عليه

والوسادة يتكئ عليها، وقال‏:‏ ليس من عمل الناس، ورخص في المصليات ‏[‏ونحوها من النخاخ وحصر الجريد، وكانت إلا ما تعلق في المسجد على عهد النبي عليه السلام لأضياف النبي عليه السلام والمساكين يأكلون منها، ويجعل في المساجد الماء العذب للشرب، وكان في مسجد النبي عليه السلام‏]‏ ويكره قتل القفلة ودفنها في المسجد، ولا يقتلها بين النعلين ولا يطرحها من ثوبه في المسجد، وكذلك البرغوث وهو أخف، قال مالك وليصرها حتى يقتلها خارج المسجد‏.‏

وقال عليه السلام‏:‏ البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها‏.‏ قال مالك‏:‏ لا يبصق على حصير المسجد ويدلكه برجله، ولا بأس أن يبصق تحت الحصير فإن كان المسجد محصبا فلا بأس أن يحفر للبصاق ويدفنه، قال ابن القاسم‏:‏ فإن لم يكن فيه حصباء يمكنه أن يدفنه فيه فلا يبصق، قال مالك‏:‏ لا يتنخم تحت النعل إلا أن لا يصل إلى التنخم تحت الحصير، قال محمد بن أبي مسلمة‏:‏ لم يزل الناس يتنخمون في المسجد ويبصقون فيه قبل أن يحصب وبعدما حصب، وأول من حصب عمر بن الخطاب، قال مالك‏:‏ وينهى السؤال عن السؤال في المسجد، والصدقة في المسجد غير محرمة، وكره مالك جلوس الناس يوم عرفة في المساجد للدعاء‏.‏

مسألة‏:‏

قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ تصلى النافلة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقدم في الفرض إلى الصف الأول، ويبتدئ الداخل بالركوع، وإن ابتدأ بالسلام فواسع، قال ابن القاسم‏:‏ الركوع أحب إلي لقوله عليه السلام‏:‏ إذا دخل أحدكم المسجد فليركع، والفاء للتعقيب‏.‏

مسألة‏:‏

قال مالك‏:‏ أكره أن يقول أهل المسجد لرجل حسن الصوت اقرأ علينا؛ لأنه شبه الغناء، قيل‏:‏ له‏:‏ فقول عمر لأبي موسى ذكرنا ربنا، قال‏:‏ أحاديث سمعتها وأنا أنفيها وهؤلاء يتحدثون ذلك يكتسبون به، قال‏:‏ إنما كرهه مالك إذا أرادوا حسن صوته، أما إذا قصدوا رقة قلوبهم لسماع قراءته الحسنة فلا لما تقدم عن عمر‏.‏

وكره مالك الحديث المروي خشية الذريعة للقراءة بالألحان، وكذلك يكره تقديمه للإمامة لحسن صوته، فقد قال عليه السلام‏:‏ بادروا بالموت قوما يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها، وكره مالك الاجتماع لقراءة سورة واحدة لما فيه من المنافسة في حسن الصوت والتلحين، ولا يقرأ جماعة على واحد لما فيه من عدم الفهم عنه كل واحد غلطه، ولأن القرآن يتعين الاستماع له، وكذلك آية من هذه السورة وآية من أخرى، ويكره قراءة جماعة على جماعة لعدم الاستماع واستخفافهم بالقرآن، والاجتماع في سورة واحدة بدعة لم يختلف قول مالك فيه، قال‏:‏ وأما جماعة على واحد فالكراهة عند عدم القدرة على الرد عليهم‏.‏

مسألة‏:‏

على المستشار للمستشير أن يعمل نظره ولا يشير إلا بعد التثبت لقوله عليه السلام المستشار مؤتمن قال عليه السلام‏:‏ والدين النصيحة‏.‏قيل‏:‏ لمن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم‏.‏

قلت‏:‏ يحسن أن يشترط في المشير سبعة شروط‏:‏ العقل الوافر؛ لأنه النور الذي يهديه؛ والمودة حتى تنبعث الفكرة؛ وأن يكون سعيدا؛ لأن الذي في

خمولة رأيه من جنس حاله؛ وأن يكون من أهل شيعتك، فإنك إن استشرت في القضاء من يحبه أشار عليك به كما يشير به على نفسه، وكذلك المكاس يشير بالمكس؛ وأن يكون عارفا بتلك القضية حتى يتمكن من تحصيل مفاسدها ومصالحها ويرجح بينها؛ وأن لا يكون ضجرا؛ لأن الضجر لا يطول فكره فلا يطلع على جميع جهات المستشار فيه؛ وأن يكون دينا؛ لأن الدين ملاك الأمر ونظام المصالح هـ‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا قام الرجل من مجلسه هو أحق به إن كان إتيانه قريبا، وإن بعد فلا، قال صاحب البيان‏:‏ وإن قام منه على أن لا يرجع إليه ورجع عن قرب فحسن أن يكون له ويقام له عنه، وإن قام على أن يرجع وجب القيام له منه إن رجع بالقرب‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا أسلم الكافر لا يثاب على ما عمل من خير حال كفره، لقوله عليه السلام‏:‏ الأعمال بالنيات‏.‏ وهو إنما يقصد بعمله حالة كفره الشكر والثناء لا التقرب، وقوله عليه السلام لحكيم بن حزام لما قال له‏:‏ أرأيت أمورا كنا نتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم هل لنا فيها من أجر‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسلمت على ما أسلفت من خير فحمل على الخير الذي سأله في دنياه من المحمدة والشكر وينتفع به عقبه من بعده في حرمته عند الناس‏.‏

تنبيه‏:‏ الاعتماد على قوله عليه السلام‏:‏ الأعمال بالنيات ونحوه لا يعم؛ لأن من الأول ما اتفقت عليه الشرائع كحفظ الدماء والأموال ونحوها من تعظيم الرب سبحانه وتعالى وغير ذلك فأمكن الكافر أن يفعلها بقصد التقرب للثناء والشكر‏.‏

ثم لو فرضنا من الكفار من آمن بالشريعة المحمدية كلها إلا سورة من القرآن فإنه كافر إجماعا مع أنه يعتقد وجوب العبادات كلها ويفعلها على وجه التقرب، وكذلك المقابل الذي كفر بظاهره فقط فيحتاج في المسألة إلى مدرك غير هذا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يكره الكلام بعد صلاة الصبح ولا يكره قبل الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، ثم ينصرف، قالت عائشة‏:‏ فإن كنت يقظانة حدثني أو نائمة اضطجع حتى يأتيه المؤذن، وكذلك بعد الفجر، ورأيت نافعا مولى ابن عمر وموسى بن ميسرة وسعيد بن أبي هند لا يكلم أحد صاحبه بعد الصبح اشتغالا بالذكر لله تعالى، وأهل العراق يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلى صلاة الصبح ولا يكرهونه بعدها، والسنة ترد عليهم‏.‏

قال‏:‏ وكره مالك النوم قبل العشاء بعد المغرب خشية النوم عنها، والحديث بعدها لتستريح الحفظة وكلاهما النهي عنه في الصحيح، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ النوم ثلاثة‏:‏ نوم خرق، ونوم خلق، ونوم حمق، فنوم الخرق نومة الضحى يكون الناس في حوائجهم وهو نائم؛ ونوم الخلق نومة القائلة؛ ونوم الحمق حين حضور الصلاة‏.‏

وكره بعضهم النوم بعد العصر لقوله عليه السلام‏:‏ من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه‏.‏ وعورض بأنه عليه السلام أرسل عليا في حاجة وقد صلى الظهر بالصبهاء، فرجع وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع عليه السلام رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم إن عبدك عليا حبس نفسه على نبيه فرد عليه شروقها، قالت أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، ثم قال علي رضي الله عنه فتوضأ وصلى العصر، ثم غابت الشمس‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقوم ليلها لا يفتر ويصوم نهارها لا يفطر، ومن رابط فواق ناقة حرمه الله على النار، والرباط أن يخرج من منزله إلى ثغر يقيم لحراسة أهل ذلك الثغر ممن يجاوره، وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابطا، وقيل‏:‏ فيه إنه أفضل من الجهاد؛ لأن الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين، وهو أحب إلى الله تعالى من سفك دماء المشركين، قال‏:‏ وذلك يصح في وقت الخوف على الثغر لا مطلقا كما قاله عبد الله بن عمر‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ لا تدخل ديار ثمود وعاد وغيرهم من المعذبين ولا تشرب من مائهم وتجنب آثارهم لقوله عليه السلام‏:‏ لا تدخلوها إلا باكين أو متباكين، وعجن بعض الصحابة رضي الله عنهم بمائهم فأمر به فأطعم الإبل‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يستكتب النصراني؛ لأن الكاتب يستشار، والنصراني لا يستشار في المسلمين، قال‏:‏ ولا يستكتب القاضي إلا عدلا مسلما مرضيا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ لا تكتب المصاحف على ما أدثه الناس من الهجاء اليوم إلا على الكتب الأول؛ لأن براءة لما لم يكتب في أولها بسم الله الرحمن الرحيم في المصاحف الأولى لم يكتب اليوم، قال مالك‏:‏ وألف الصحابة رضي الله عنهم السور الطوال وحدها والقصار وحدها مع أن النزول لم يقع على هذا الترتيب، بل ألفوه على ما سمعوه من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ولا يؤمر الصبيان أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم أول السورة، ثم لا يكتبوها بعد ذلك كما هو في المصحف، بل كلما كتبوا شيئا من القرآن كتبوها ابتداء؛ لأنهم يتعلمون بذلك ولم يجعلوه إماما‏.‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ ولا أرى أن تنقط المصاحف ولا يزاد فيها ما لم يكن فيها، وأما مصاحف صغار يتعلم فيها الصبيان فلا يمتنع، قال صاحب البيان‏:‏ اختلف القراء في كثير من النقط والشكل؛ لأنه لم يتواتر فلا يحصل العلم بأنه كذلك نزل، وقد يختلف المعنى باختلافه، فكره مالك أن يثبت في أمهات المصاحف ما فيه اختلاف‏.‏

وكره تعشير المصحف بالحمرة بخلاف السواد، واختلف قوله في تحلية أغشيته بالذهب فكرهه وأجازه وأجاز الفضة، وكره كتابة القرآن أسداسا وأتساعا في المصاحف كراهة شديدة وقال‏:‏ لا يفرق القرآن وقد جمعه الله‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال ابن القاسم في طعام الفجاءة بأن يغشى الرجل القوم وهم يأكلون إن دعوه أجابهم، وإن لم يدعوه لا يأكل لهم شيئا، قال صاحب البيان‏:‏ هذا يختلف باختلاف حال القوم، إن ظهر بشرهم بقدومه أكل، أو الكراهة وإنما دعوه حياء لا يأكل وإن دعوه من غير استحباب ولا كراهة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ لا يكره الأخذ بالرخص التي رخص الله تعالى فيها، كالتعجيل في يومين في الحج، وقصر الصلاة ونحوها، بل الأفضل الأخذ بها، وإنما يكره فيما اختلف العلماء فيه بالإباحة والمنع، فإن أخذ بالمنع سلم، وإن أخذ بالإباحة خشي الإثم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ يكره الإكثار من العبادة على وجه يؤدي للانقطاع، لقوله عليه السلام‏:‏

إن الله لا يمل حتى تملوا‏.‏ وقال‏:‏ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ للجن الثواب والعقاب‏.‏

قلت‏:‏ وحكى المحاسبي قولين في التنعيم، والإجماع على تعذيب الكافر منهم، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏"‏ ولم يرد نص في أن الجن في الجنة، غير أن العمومات تتناولهم، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم‏"‏ ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ‏"‏ ونحو ذلك‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ لم يكره ابن القاسم للعاطس أن يحمد الله تعالى وهو يبول، وكرهه ابن عباس في الخلاء والجماع‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ لم يكره مالك للشابة العزبة الخضاب والقلادة، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة أتته فقال لها‏:‏ ما لك لا تختضبين ألك زوج‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ فاختضبي فإن المرأة تختضب لأمرين‏:‏ إن كان لها زوج فلتخضب لزوجها، وإن لم يكن لها زوج فلتخضب لخطابها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ المقاصير في الجوامع مكروهة، وأول من اتخذها مروان حين طعنه اليماني فجعلها من طين‏.‏

مسألة‏:‏

قال بعض العلماء‏:‏ قد يحرم الله تعالى ما لا مفسدة فيه عقوبة وحرمانا أو تعبدا، فالأول كتحريم ذي الظفر والشحوم على اليهود عقوبة لهم، ولو كان لمفسدته لما حل لنا مع أنا أكرم على الله منهم، ونص تعالى على ذلك بقوله‏:‏ ‏"‏ذلك جزيناهم ببغيهم‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏"‏ وتحريم التعبد كتحريم الصيد في الإحرام والدهن والطيب واللباس فإنها لم تحرم بصفتها بل لأمر خارج كما قال الغير‏.‏

مسألة‏:‏

قال بعض العلماء‏:‏ إنما التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين دفعا لمفاسد عظيمة وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الحالين بمكة، فاقتضت المصلحة أن ينعقد الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إليه؛ لأنه أهون من قتل المؤمنين، مع أن الله تعالى علم أن في تأخير القتال مصلحة عظيمة، وهي إسلام جماعة منهم، ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ليدخل الله في رحمته من يشاء‏"‏ وكذلك قال‏:‏ ‏"‏لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما‏"‏ أي لو تميز الكافرون من المؤمنين‏.‏

مسألة‏:‏

التوبة واجبة بالإجماع على الفور، وهي تمحو ما تقدمها من آثام الذنوب

المتعلقة بالله تعالى، لا تسقط حقوق العباد ولا حق الله تعالى الذي ليس بذنب كقضاء الصلوات ونحوها فإن ترتب العبادات والحقوق في الذمم هو تكليف تشريف لا إثم وعقوبة‏.‏

ولها ثلاثة أركان‏:‏ الندم على المعصية، والعزم على عدم العود، والإقلاع في الوقت الحاضر عما تاب عنه، وقد يكون الندم وحده توبة في حق العاجز عن العزم والإقلاع، كمن كان يعصي بالنظر إلى المحرمات فعمي، أو بالزنا فجب، لقوله عليه السلام‏:‏ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏.‏ فيجب الندم وحده، وعليه حمل قوله عليه السلام‏:‏ الندم توبة، أو يحمل على أن معظمها الندم كما قال عليه السلام‏:‏ الحج عرفة‏.‏

ويستحب للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد على فعله والعزم على عدم العود، وعليه حمل قوله عليه السلام‏:‏ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة، وليس معناه أنه يذنب في اليوم مائة مرة بل ذكره لما هو بالنسبة إلى علو منصبه ذنب؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وذكره له عليه السلام في اليوم مائة مرة يدل على فرط استعظامه لأمرر به، فشتان ما بين من لا ينسى الحقير من أمر ربه حتى يذكره في اليوم مائة مرة، وبين من ينسى العظيم من ذنوبه فلا يمر على باله احتقارا لذنوبه وجهلا بعظمة ربه، وقد ذم الله تعالى من وعظ فأعرض عن الموعظة ونسي ما قدمت يداه‏.‏

وإذا كانت التوبة واجبة على الفور فمن أخرها زمانا عصى بتأخيرها،

فيتكرر عصيانه بتكرر الأزمنة، فيحتاج إلى توبة من تأخير التوبة، وكذلك تأخير كل ما يجب تقديمه من الطاعات‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يتصور التوبة مع ملاحظة توحد الله تعالى بالأفعال خيرها وشرها، والندم على فعل الغير متعذر‏.‏

قلنا‏:‏ على أصلنا أن له كسبا، فيكون ندمه على كسبه لا على صنع ربه، ومن لا يرى بالكسب يخصص وجوب التوبة بحال‏.‏‏.‏‏.‏ عن التوحيد، وهو مشكل من جهة أنه يجب عليه التوبة مما يعتقد أنه فعل له وليس فعلا له‏.‏

مسألة‏:‏

قول الفقهاء‏:‏ القربة المتعدية أفضل من القاصرة لا يصح؛ لأن الإيمان والمعرفة أفضل من التصدق بدرهم، وإنما الفضل على قدر المصالح الناشئة من القربات‏.‏

مسألة‏:‏

الأجر في التكاليف على قدر النصب إذا اتحد النوع احترازا من التصدق بالمال العظيم مع الشهادتين وهما أعظم بما لا يتقارب، وشذ عن القاعدة قوله عليه السلام في الوزغة‏:‏ من قتلها في المرة الأولى فله مائة حسنة، ومن قتلها في المرة الثانية فله سبعون، فكثرت المشقة ونقص الأجر، وسببه أن الأجر إنما هو على تفاوت المصالح لا على تفاوت المشاق، فإن الله تعالى لم يطلب من العباد مشقتهم وعذابهم، وإنما طلب جلب المصالح ودفع المفاسد، وإنما قال عليه السلام‏:‏ أفضل العبادة أجهدها وأجرك على قدر نصبك ز لأن الفعل إذا لم يكن مشقا كان حظ النفس فيه كثيرا فيقل الإخلاص فيه، وإذا كثرت مشقته قل حظ النفس فيتيسر الإخلاص وكثرة الثواب، فالثواب في الحقيقة مرتب على مراتب الإخلاص لا على مراتب المشقة‏.‏

مسألة‏:‏

قال بعض العلماء‏:‏ ما ورد من النوافل في الصلاة تكمل بها الفرائض يوم القيامة معناه تجبر السنن التي فيها، ولا يمكن أن تعدل النوافل وإن كثرت فرضا لقوله تعالى في الحديث‏:‏ ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه‏.‏ ففضل الفرض على النفل وإن كثر، وهذا وإن كان مقصودا بهذا الظاهر غير أنه يشكل بأن الثواب يتبع المصالح والعقاب يتبع المفاسد، فلا يمكننا أن نقول‏:‏ إن ثمن درهم من الزكاة يربي على ألف درهم صدقه تطوع، وإن قيام الدهر لا يعدل الصبح‏.‏